الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الصَّبْرِ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الصَّبْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، بِمُطَالَعَةِ الْوَعِيدِ: إِبْقَاءً عَلَى الْإِيمَانِ، وَحَذَرًا مِنَ الْحَرَامِ، وَأَحْسَنُ مِنْهَا: الصَّبْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ حَيَاءً. ذَكَرَ لِلصَّبْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبَيْنِ وَفَائِدَتَيْنِ. أَمَّا السَّبَبَانِ: فَالْخَوْفُ مِنْ لُحُوقِ الْوَعِيدِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي الْحَيَاءُ مِنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى مَعَاصِيهِ بِنِعَمِهِ، وَأَنْ يُبَارَزَ بِالْعَظَائِمِ. وَأَمَّا الْفَائِدَتَانِ: فَالْإِبْقَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْحَذَرُ مِنَ الْحَرَامِ. فَأَمَّا مُطَالَعَةُ الْوَعِيدِ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ: فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِالْخَبَرِ، وَالتَّصْدِيقُ بِمَضْمُونِهِ. وَأَمَّا الْحَيَاءُ: فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ قُوَّةُ الْمَعْرِفَةِ، وَمُشَاهَدَةُ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ وَازِعُ الْحُبِّ. فَيَتْرُكُ مَعْصِيَتَهُ مَحَبَّةً لَهُ، كَحَالِ الصُّهَيْبِيِّينَ. وَأَمَّا الْفَائِدَتَانِ: فَالْإِبْقَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ: يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ. لِأَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تُنْقِصَهُ، أَوْ تَذْهَبَ بِهِ، أَوْ تُذْهِبَ رَوْنَقَهُ، وَبَهْجَتَهُ، أَوْ تُطْفِئَ نُورَهُ، أَوْ تُضْعِفَ قُوَّتَهُ، أَوْ تُنْقِصَ ثَمَرَتَهُ. هَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ يُعْلَمُ بِالْوُجُودِ وَالْخَبَرِ وَالْعَقْلِ، كَمَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ- يَرْفَعُ إِلَيْهِ النَّاسُ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا- وَهُوَ مُؤْمِنٌ. فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ. وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ. وَأَمَّا الْحَذَرُ عَنِ الْحَرَامِ: فَهُوَ الصَّبْرُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحِ، حَذَرًا مِنْ أَنْ يَسُوقَهُ إِلَى الْحَرَامِ. وَلَمَّا كَانَ الْحَيَاءُ مِنْ شِيَمِ الْأَشْرَافِ، وَأَهْلِ الْكَرَمِ وَالنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ كَانَ صَاحِبُهُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ أَهْلِ الْخَوْفِ. وَلِأَنَّ فِي الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَاقَبَتِهِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ مَعَهُ. وَلِأَنَّ فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ مَا لَيْسَ فِي وَازِعِ الْخَوْفِ. فَمَنْ وَازِعُهُ الْخَوْفُ: قَلْبُهُ حَاضِرٌ مَعَ الْعُقُوبَةِ. وَمَنْ وَازِعُهُ الْحَيَاءُ: قَلْبُهُ حَاضِرٌ مَعَ اللَّهِ. وَالْخَائِفُ مُرَاعٍ جَانِبَ نَفْسِهِ وَحِمَايَتَهَا. وَالْمُسْتَحِي مُرَاعٍ جَانِبَ رَبِّهِ وَمُلَاحِظٌ عَظَمَتَهُ. وَكِلَا الْمَقَامَيْنِ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. غَيْرَ أَنَّ الْحَيَاءَ أَقْرَبُ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَأَلْصَقُ بِهِ، إِذْ أَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ كَأَنَّهُ يَرَى اللَّهَ. فَنَبَعَتْ يَنَابِيعُ الْحَيَاءِ مِنْ عَيْنِ قَلْبِهِ وَتَفَجَّرَتْ عُيُونُهَا.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَةِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا دَوَامًا، وَبِرِعَايَتِهَا إِخْلَاصًا. وَبِتَحْسِينِهَا عِلْمًا. هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ: أَنَّ فِعْلَ الطَّاعَةِ آكَدُ مِنْ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ. فَيَكُونُ الصَّبْرُ عَلَيْهَا فَوْقَ الصَّبْرِ عَنْ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ فِي الدَّرَجَةِ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ- كَمَا تَقَدَّمَ- فَإِنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ إِنَّمَا كَانَ لِتَكْمِيلِ الطَّاعَةِ. وَالنَّهْيُ مَقْصُودٌ لِلْأَمْرِ. فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَمَّا كَانَ يُضْعِفُ الْمَأْمُورَ بِهِ وَيُنْقِصُهُ: نَهَى عَنْهُ حِمَايَةً، وَصِيَانَةً لِجَانِبِ الْأَمْرِ، فَجَانِبُ الْأَمْرِ أَقْوَى وَآكَدُ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصِّحَّةِ وَالْحَيَاةِ. وَالنَّهْيُ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْيَةِ الَّتِي تُرَادُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ وَأَسْبَابِ الْحَيَاةِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ: أَنَّ الصَّبْرَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: دَوَامُ الطَّاعَةِ. وَالْإِخْلَاصُ فِيهَا. وَوُقُوعُهَا عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ. وَهُوَ تَحْسِينُهَا عِلْمًا. فَإِنَّ الطَّاعَةَ تَتَخَلَّفُ مِنْ فَوَاتِ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا دَوَامًا عَطَّلَهَا، وَإِنْ حَافَظَ فِيهَا دَوَامًا عَرَضَ لَهَا آفَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: تَرْكُ الْإِخْلَاصِ فِيهَا. بِأَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ، وَإِرَادَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. فَحِفْظُهَا مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ: بِرِعَايَةِ الْإِخْلَاصِ. الثَّانِيَةُ: أَلَّا تَكُونَ مُطَابِقَةً لِلْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا تَكُونُ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ. فَحِفْظُهَا مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ بِتَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ. كَمَا أَنَّ حِفْظَهَا مِنْ تِلْكَ الْآفَةِ بِتَجْرِيدِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا دَوَامًا، وَرِعَايَتِهَا إِخْلَاصًا، وَتَحْسِينِهَا عِلْمًا.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الصَّبْرُ فِي الْبَلَاءِ، بِمُلَاحَظَةِ حُسْنِ الْجَزَاءِ، وَانْتِظَارِ رُوحِ الْفَرَجِ. وَتَهْوَيْنِ الْبَلِيَّةِ بَعْدَ أَيَادِي الْمِنَنِ. وَبِذِكْرِ سَوَالِفِ النِّعَمِ. هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ تَبْعَثُ الْمُتَلَبِّسَ بِهَا عَلَى الصَّبْرِ فِي الْبَلَاءِ. إِحْدَاهَا: مُلَاحَظَةُ حُسْنِ الْجَزَاءِ. وَعَلَى حَسَبِ مُلَاحَظَتِهِ وَالْوُثُوقِ بِهِ وَمُطَالَعَتِهِ يُخَفَّفُ حِمْلُ الْبَلَاءِ، لِشُهُودِ الْعِوَضِ، وَهَذَا كَمَا يَخِفُّ عَلَى كُلِّ مُتَحَمِّلٍ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ حَمْلُهَا، لِمَا يُلَاحِظُهُ مِنْ لَذَّةِ عَاقِبَتِهَا وَظَفَرِهِ بِهَا. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَا أَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّةٍ عَاجِلَةٍ إِلَّا لِثَمَرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، فَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ. وَإِنَّمَا خَاصَّةُ الْعَقْلِ: تَلَمُّحُ الْعَوَاقِبِ، وَمُطَالَعَةُ الْغَايَاتِ. وَأَجْمَعَ عُقَلَاءُ كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى أَنَّ النَّعِيمَ لَا يُدْرَكُ بِالنَّعِيمِ. وَأَنَّ مَنْ رَافَقَ الرَّاحَةَ فَارَقَ الرَّاحَةَ. وَحَصَلَ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَقْتَ الرَّاحَةِ فِي دَارِ الرَّاحَةِ، فَإِنَّ قَدْرَ التَّعَبِ تَكُونُ الرَّاحَةُ. عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ *** وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكَرِيمِ الْكَرَائِمُ وَيَكْبُرُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صَغِيرُهَا *** وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ وَالْقَصْدُ: أَنَّ مُلَاحَظَةَ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ تُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ بِاخْتِيَارِكَ وَغَيْرِ اخْتِيَارِكَ. وَالثَّانِي انْتِظَارُ رُوحِ الْفَرَجِ يَعْنِي رَاحَتَهُ وَنَسِيمَهُ وَلَذَّتَهُ. فَإِنَّ انْتِظَارَهُ وَمُطَالَعَتَهُ وَتَرَقُّبَهُ يُخَفِّفُ حَمْلَ الْمَشَقَّةِ. وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ قُوَّةِ الرَّجَاءِ. أَوِ الْقَطْعِ بِالْفَرَجِ. فَإِنَّهُ يَجِدُ فِي حَشْوِ الْبَلَاءِ مِنْ رُوحِ الْفَرَجِ وَنَسِيمِهِ وَرَاحَتِهِ: مَا هُوَ مِنْ خَفِيِّ الْأَلْطَافِ، وَمَا هُوَ فَرَجٌ مُعَجَّلٌ. وَبِهِ- وَبِغَيْرِهِ- يُفْهَمُ مَعْنَى اسْمِهِ اللَّطِيفِ. وَالثَّالِثُ: تَهْوَيْنُ الْبَلِيَّةِ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعُدَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَيَادِيهِ عِنْدَهُ. فَإِذَا عَجَزَ عَنْ عَدِّهَا، وَأَيِسَ مِنْ حَصْرِهَا، هَانَ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَرَآهُ- بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَيَادِي اللَّهِ وَنِعَمِهِ- كَقَطْرَةٍ مِنْ بَحْرٍ. الثَّانِي: تَذَكُّرُ سَوَالِفِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ. فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي. وَتِعْدَادُ أَيَادِي الْمِنَنِ: يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَأَحَدُهُمَا فِي الدُّنْيَا. وَالثَّانِي يَوْمَ الْجَزَاءِ. وَيُحْكَى عَنِ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَابِدَاتِ أَنَّهَا عَثَرَتْ. فَانْقَطَعَتْ إِصْبَعُهَا. فَضَحِكَتْ. فَقَالَ لَهَا بَعْضُ مَنْ مَعَهَا: أَتَضْحَكِينَ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ إِصْبَعُكِ؟ فَقَالَتْ: أُخَاطِبُكَ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ. حَلَاوَةُ أَجْرِهَا أَنْسَتْنِي مَرَارَةَ ذِكْرِهَا. إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَقْلَهُ لَا يَحْتَمِلُ مَا فَوْقَ هَذَا الْمَقَامِ. مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمُبْتَلِي. وَمُشَاهَدَةِ حُسْنِ اخْتِيَارِهِ لَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ، وَتَلَذُّذِهَا بِالشُّكْرِ لَهُ، وَالرِّضَا عَنْهُ، وَمُقَابَلَةِ مَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ. كَمَا قِيلَ: لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتَنِي بِمُسَاءَةٍ *** فَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكَا
قَالَ وَأَضْعَفُ الصَّبْرِ: الصَّبْرُ لِلَّهِ. وَهُوَ صَبْرُ الْعَامَّةِ. وَفَوْقَهُ: الصَّبْرُ بِاللَّهِ. وَهُوَ صَبْرُ الْمُرِيدِينَ. وَفَوْقَهُ: الصَّبْرُ عَلَى اللَّهِ. وَهُوَ صَبْرُ السَّالِكِينَ. مَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ صَبْرَ الْعَامَّةِ لِلَّهِ. أَيْ رَجَاءَ ثَوَابِهِ، وَخَوْفَ عِقَابِهِ. وَصَبْرُ الْمُرِيدِينَ بِاللَّهِ. أَيْ بِقُوَّةِ اللَّهِ وَمَعُونَتِهِ. فَهُمْ لَا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ صَبْرًا، وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ عَلَيْهِ. بَلْ حَالُهُمُ التَّحَقُّقُ بِـ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَحَالًا. وَفَوْقَهُمَا: الصَّبْرُ عَلَى اللَّهِ. أَيْ عَلَى أَحْكَامِهِ. إِذْ صَاحِبُهُ يَشْهَدُ الْمُتَصَرِّفَ فِيهِ. فَهُوَ يَصْبِرُ عَلَى أَحْكَامِهِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِ، جَالِبَةً عَلَيْهِ مَا جَلَبَتْ مِنْ مَحْبُوبٍ وَمَكْرُوهٍ. فَهَذِهِ دَرَجَةُ صَبْرِ السَّالِكِينَ. وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عِنْدَهُ مِنَ الْعَوَامِّ. إِذْ هُوَ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ لِلْعَامَّةِ وَأَنَّهُ مِنْ أَضْعَفِ مَنَازِلِهِمْ. هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ الصَّبْرَ لِلَّهِ فَوْقَ الصَّبْرِ بِاللَّهِ، وَأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنْهُ وَأَجَلُّ. فَإِنَّ الصَّبْرَ لِلَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِإِلَهِيَّتِهِ. وَالصَّبْرُ بِهِ: مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ. وَمَا تَعَلَّقَ بِإِلَهِيَّتِهِ أَكْمَلُ وَأَعْلَى مِمَّا تَعَلَّقَ بِرُبُوبِيَّتِهِ. وَلِأَنَّ الصَّبْرَ لَهُ: عِبَادَةٌ. وَالصَّبْرَ بِهِ اسْتِعَانَةٌ. وَالْعِبَادَةُ غَايَةٌ. وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ. وَالْغَايَةُ مُرَادَةٌ لِنَفْسِهَا، وَالْوَسِيلَةُ مُرَادَةٌ لِغَيْرِهَا. وَلِأَنَّ الصَّبْرَ بِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. فَكُلُّ مَنْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ صَبَرَ بِهِ. وَأَمَّا الصَّبْرُ لَهُ: فَمَنْزِلَةُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِّيقِينَ، وَأَصْحَابِ مَشْهَدِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وَلِأَنَّ الصَّبْرَ لَهُ: صَبْرٌ فِيمَا هُوَ حَقُّ لَهُ، مَحْبُوبٌ لَهُ مَرْضِيٌّ لَهُ. وَالصَّبْرُ بِهِ: قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا هُوَ مَسْخُوطٌ لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ فِي مَكْرُوهٍ أَوْ مُبَاحٍ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الصَّبْرِ عَلَى أَحْكَامِهِ صَبْرًا عَلَيْهِ. فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الْعِبَارَةِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى. فَهَذَا هُوَ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِهِ. وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّيْخُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ بِمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالصَّبْرَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ: أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَقْدَارِهِ- كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِنَّ الصَّبْرَ فِيهَا صَبْرُ اخْتِيَارٍ وَإِيثَارٍ وَمَحَبَّةٍ. وَالصَّبْرُ عَلَى أَحْكَامِهِ الْكَوْنِيَّةِ: صَبْرُ ضَرُورَةٍ. وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْبَوْنِ مَا قَدْ عَرَفْتَ. وَكَذَلِكَ كَانَ صَبْرُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَلَى مَا نَالَهُمْ فِي اللَّهِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَفِعْلِهِمْ، وَمُقَاوَمَتِهِمْ قَوْمَهُمْ: أَكْمَلُ مِنْ صَبْرِ أَيُّوبَ عَلَى مَا نَالَهُ فِي اللَّهِ مِنِ ابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ بِمَا لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْ فِعْلِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ صَبْرُ إِسْمَاعِيلَ الذَّبِيحِ. وَصَبْرُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ أَكْمَلَ مِنْ صَبْرِ يَعْقُوبَ عَلَى فَقْدِ يُوسُفَ. فَعَلِمْتَ بِهَذَا أَنَّ الصَّبْرَ لِلَّهِ أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ بِاللَّهِ. وَالصَّبْرَ عَلَى طَاعَتِهِ وَالصَّبْرَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى قَضَائِهِ وَقَدْرِهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فَإِنْ قُلْتَ: الصَّبْرُ بِاللَّهِ أَقْوَى مِنَ الصَّبْرِ لِلَّهِ. فَإِنَّ مَا كَانَ بِاللَّهِ كَانَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. وَمَا كَانَ بِهِ لَمْ يُقَاوِمْهُ شَيْءٌ. وَلَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ. وَهُوَ صَبْرُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَالتَّأْثِيرِ. وَالصَّبْرُ لِلَّهِ صَبْرُ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ. وَلِهَذَا هُمْ- مَعَ إِخْلَاصِهِمْ وَزُهْدِهِمْ وَصَبْرِهِمْ لِلَّهِ- أَضْعَفُ مِنَ الصَّابِرِينَ بِهِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَأَضْعَفُ الصَّبْرِ: الصَّبْرُ لِلَّهِ. قِيلَ: الْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ مَرَاتِبُ الصَّبْرِ. إِحْدَاهَا: مَرْتَبَةُ الْكَمَالِ. وَهِيَ مَرْتَبَةُ أُولِي الْعَزَائِمِ. وَهِيَ الصَّبْرُ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ. فَيَكُونُ فِي صَبْرِهِ مُبْتَغِيًا وَجْهَ اللَّهِ، صَابِرًا بِهِ، مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. فَهَذَا أَقْوَى الْمَرَاتِبِ وَأَرْفَعُهَا وَأَفْضَلُهَا. الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. فَهُوَ أَخَسُّ الْمَرَاتِبِ، وَأَرْدَأُ الْخَلْقِ. وَهُوَ جَدِيرٌ بِكُلِّ خُذْلَانٍ، وَبِكُلِّ حِرْمَانٍ. الثَّالِثَةُ: مَرْتَبَةُ مَنْ فِيهِ صَبْرٌ بِاللَّهِ. وَهُوَ مُسْتَعِينٌ مُتَوَكِّلٌ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. مُتَبَرِّئٌ مِنْ حَوْلِهِ هُوَ وَقُوَّتِهِ. وَلَكِنَّ صَبْرَهُ لَيْسَ لِلَّهِ، إِذْ لَيْسَ صَبْرُهُ فِيمَا هُوَ مُرَادُ اللَّهِ الدِّينِيُّ مِنْهُ. فَهَذَا يَنَالُ مَطْلُوبَهُ، وَيَظْفَرُ بِهِ. وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ. وَرُبَّمَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ شَرَّ الْعَوَاقِبِ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ خُفَرَاءُ الْكُفَّارِ وَأَرْبَابُ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ. فَإِنَّ صَبْرَهُمْ بِاللَّهِ لَا لِلَّهِ، وَلَا فِي اللَّهِ. وَلَهُمْ مِنَ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ بِحَسَبِ قُوَّةِ أَحْوَالِهِمْ. وَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ. فَإِنَّ الْحَالَ كَالْمُلْكِ يُعْطَاهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ. الرَّابِعُ: مَنْ فِيهِ صَبْرٌ لِلَّهِ، لَكِنَّهُ ضَعِيفُ النَّصِيبِ مِنَ الصَّبْرِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالثِّقَةِ بِهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ. فَهَذَا لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ عَاجِزٌ، مَخْذُولٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَطَالِبِهِ. لِضَعْفِ نَصِيبِهِ مِنْ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَنَصِيبُهُ مِنَ اللَّهِ: أَقْوَى مِنْ نَصِيبِهِ بِاللَّهِ. فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفِ. وَصَابِرٌ بِاللَّهِ، لَا لِلَّهِ: حَالُ الْفَاجِرِ الْقَوِيِّ. وَصَابِرٌ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ: حَالُ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيِّ. وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفِ. فَصَابِرٌ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ عَزِيزٌ حَمِيدٌ. وَمَنْ لَيْسَ لِلَّهِ وَلَا بِاللَّهِ مَذْمُومٌ مَخْذُولٌ. وَمَنْ هُوَ بِاللَّهِ لَا لِلَّهِ قَادِرٌ مَذْمُومٌ. وَمَنْ هُوَ لِلَّهِ لَا بِاللَّهِ عَاجِزٌ مَحْمُودٌ. فَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَيُتَبَيَّنُ فِيهِ الْخَطَأُ مِنَ الصَّوَابِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الرِّضَا وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبُّ، مُؤَكَّدٌ اسْتِحْبَابُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- يَحْكِيهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى الْقَوْلِ بِاسْتِحْبَابِهِ. قَالَ: وَلَمْ يَجِئِ الْأَمْرُ بِهِ، كَمَا جَاءَ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ. وَإِنَّمَا جَاءَ الثَّنَاءُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَمَدْحِهِمْ. قَالَ: وَأَمَّا مَا يُرْوَى مِنَ الْأَثَرِ: مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي، وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوَائِي. فَهَذَا أَثَرٌ إِسْرَائِيلِيٌّ، لَيْسَ يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُكْتَسَبَةٍ، بَلْ هُوَ مَوْهِبَةٌ مَحْضَةٌ. فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ. وَلَيْسَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ؟ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَرْبَابُ السُّلُوكِ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ فَالْخُرَاسَانِيُّونَ قَالُوا: الرِّضَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ. وَهُوَ نِهَايَةُ التَّوَكُّلِ. فَعَلَى هَذَا: يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ بِاكْتِسَابِهِ. وَالْعِرَاقِيُّونَ قَالُوا: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ. وَلَيْسَ كَسْبِيًّا لِلْعَبْدِ، بَلْ هُوَ نَازِلَةٌ تَحِلُّ بِالْقَلْبِ كَسَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ: أَنَّ الْمَقَامَاتِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَكَاسِبِ. وَالْأَحْوَالُ مُجَرَّدُ الْمَوَاهِبِ. وَحَكَمَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ. مِنْهُمُ الْقُشَيْرِيُّ- صَاحِبُ الرِّسَالَةِ- وَغَيْرُهُ، فَقَالُوا: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ يُقَالَ: بِدَايَةُ الرِّضَا مُكْتَسَبَةٌ لِلْعَبْدِ. وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ. وَنِهَايَتُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ. وَلَيْسَتْ مُكْتَسَبَةً. فَأَوَّلُهُ مَقَامٌ، وَنِهَايَتُهُ حَالٌ. وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ: بِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ أَهْلَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا. وَقَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ. وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَإِلَيْهِمَا يَنْتَهِي. وَقَدْ تَضَمَّنَا الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَأُلُوهِيَّتِهِ. وَالرِّضَا بِرَسُولِهِ، وَالِانْقِيَادَ لَهُ. وَالرِّضَا بِدِينِهِ، وَالتَّسْلِيمَ لَهُ، وَمَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ: فَهُوَ الصِّدِّيقُ حَقًّا. وَهِيَ سَهْلَةٌ بِالدَّعْوَى وَاللِّسَانِ. وَهِيَ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ وَالِامْتِحَانِ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَوَى النَّفْسِ وَمُرَادَهَا. مِنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّضَا كَانَ لِسَانُهُ بِهِ نَاطِقًا. فَهُوَ عَلَى لِسَانِهِ لَا عَلَى حَالِهِ. فَالرِّضَا بِإِلَهِيَّتِهِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ، وَخَوْفَهُ، وَرَجَائَهُ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَالتَّبَتُّلَ إِلَيْهِ، وَانْجِذَابَ قُوَى الْإِرَادَةِ وَالْحُبِّ كُلِّهَا إِلَيْهِ. فَعَلَ الرَّاضِي بِمَحْبُوبِهِ كُلَّ الرِّضَا. وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ. وَالرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ: يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِتَدْبِيرِهِ لِعَبْدِهِ. وَيَتَضَمَّنُ إِفْرَادَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالثِّقَةِ بِهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ. وَأَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا يَفْعَلُ بِهِ. فَالْأَوَّلُ: يَتَضَمَّنُ رِضَاهُ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ. وَالثَّانِي: يَتَضَمَّنُ رِضَاهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الرِّضَا بِنَبِيِّهِ رَسُولًا: فَيَتَضَمَّنُ كَمَالَ الِانْقِيَادِ لَهُ. وَالتَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ. فَلَا يَتَلَقَّى الْهُدَى إِلَّا مِنْ مَوَاقِعِ كَلِمَاتِهِ. وَلَا يُحَاكِمُ إِلَّا إِلَيْهِ. وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا يَرْضَى بِحُكْمِ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ. لَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَذْوَاقِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَقَامَاتِهِ. وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. لَا يَرْضَى فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ غَيْرِهِ. وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِحُكْمِهِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ كَانَ تَحْكِيمُهُ غَيْرَهُ مِنْ بَابِ غِذَاءِ الْمُضْطَرِّ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُقِيتُهُ إِلَّا مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ: أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التُّرَابِ الَّذِي إِنَّمَا يُتَيَمَّمُ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الطَّهُورِ. وَأَمَّا الرِّضَا بِدِينِهِ: فَإِذَا قَالَ، أَوْ حَكَمَ، أَوْ أَمَرَ، أَوْ نَهَى: رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا. وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ حَرَجٌ مِنْ حُكْمِهِ. وَسَلَّمَ لَهُ تَسْلِيمًا. وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِمُرَادِ نَفْسِهِ أَوْ هَوَاهَا، أَوْ قَوْلِ مُقَلِّدِهِ وَشَيْخِهِ وَطَائِفَتِهِ. وَهَاهُنَا يُوحِشُكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَّا الْغُرَبَاءَ فِي الْعَالَمِ. فَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَوْحِشَ مِنْ الِاغْتِرَابِ وَالتَّفَرُّدِ. فَإِنَّهُ وَاللَّهِ عَيْنُ الْعِزَّةِ، وَالصُّحْبَةِ مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَرُوحُ الْأُنْسِ بِهِ. وَالرِّضَا بِهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا. بَلِ الصَّادِقُ كُلَّمَا وَجَدَ مَسَّ الِاغْتِرَابَ، وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ، وَتَنَسَّمَ رُوحَهُ. قَالَ: اللَّهُمَّ زِدْنِي اغْتِرَابًا، وَوَحْشَةً مِنَ الْعَالَمِ، وَأُنْسًا بِكَ. وَكُلَّمَا ذَاقَ حَلَاوَةَ هَذَا الِاغْتِرَابِ، وَهَذَا التَّفَرُّدِ: رَأَى الْوَحْشَةَ عَيْنَ الْأُنْسِ بِالنَّاسِ، وَالذُّلَّ عَيْنَ الْعِزِّ بِهِمْ. وَالْجَهْلَ عَيْنَ الْوُقُوفِ مَعَ آرَائِهِمْ وَزُبَالَةِ أَذْهَانِهِمْ، وَالِانْقِطَاعَ عَيْنَ التَّقَيُّدِ بِرُسُومِهِمْ وَأَوْضَاعِهِمْ. فَلَمْ يُؤْثِرْ بِنَصِيبِهِ مِنَ اللَّهِ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ. وَلَمْ يَبِعْ حَظَّهُ مِنَ اللَّهِ بِمُوَافَقَتِهِمْ فِيمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحِرْمَانَ. وَغَايَتُهُ: مَوَدَّةُ بَيْنِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَإِذَا انْقَطَعَتِ الْأَسْبَابُ. وَحَقَّتِ الْحَقَائِقُ، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، وَبُلِيَتِ السَّرَائِرُ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْ دُونِ مَوْلَاهُ الْحَقِّ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ: تَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ مَوَاقِعُ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ. وَمَا الَّذِي يَخِفُّ أَوْ يَرْجَحُ بِهِ الْمِيزَانُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرِّضَا كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ، مُوهَبِيٌّ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ. فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِالْكَسْبِ لِأَسْبَابِهِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ فِي أَسْبَابِهِ وَغَرَسَ شَجَرَتَهُ: اجْتَنَى مِنْهَا ثَمَرَةَ الرِّضَا. فَإِنَّ الرِّضَا آخِرُ التَّوَكُّلِ. فَمَنْ رَسَّخَ قَدَمَهُ فِي التَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ: حَصَلَ لَهُ الرِّضَا وَلَا بُدَّ. وَلَكِنْ لِعِزَّتِهِ وَعَدَمِ إِجَابَةِ أَكْثَرِ النُّفُوسِ لَهُ، وَصُعُوبَتِهِ عَلَيْهَا- لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ. رَحْمَةً بِهِمْ، وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ. لَكِنْ نَدْبَهُمْ إِلَيْهِ. وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَوَابَهُ رِضَاهُ عَنْهُمْ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنَ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا. فَمَنْ رَضِيَ عَنْ رَبِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. بَلْ رِضَا الْعَبْدِ عَنِ اللَّهِ مِنْ نَتَائِجِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ. فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِنَوْعَيْنِ مِنْ رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ: رِضًا قَبْلَهُ، أَوْجَبَ لَهُ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، وَرِضًا بَعْدَهُ. هُوَ ثَمَرَةُ رِضَاهُ عَنْهُ. وَلِذَلِكَ كَانَ الرِّضَا بَابَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، وَجَنَّةَ الدُّنْيَا، وَمُسْتَرَاحَ الْعَارِفِينَ، وَحَيَاةَ الْمُحِبِّينَ، وَنَعِيمَ الْعَابِدِينَ، وَقُرَّةَ عُيُونِ الْمُشْتَاقِينَ. وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حُصُولِ الرِّضَا: أَنْ يَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ. فَإِنَّهُ يُوصِلُهُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا وَلَا بُدَّ. قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ: مَتَى يَبْلُغُ الْعَبْدُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا؟ فَقَالَ: إِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ، فَيَقُولُ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي قَبِلْتُ. وَإِنْ مَنَعْتَنِي رَضِيتُ. وَإِنْ تَرَكْتَنِي عَبَدْتُ. وَإِنْ دَعَوْتَنِي أَجَبْتُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الرِّضَا هُوَ صِحَّةُ الْعِلْمِ الْوَاصِلِ إِلَى الْقَلْبِ. فَإِذَا بَاشَرَ الْقَلْبَ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ أَدَّاهُ إِلَى الرِّضَا. وَلَيْسَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ. فَإِنَّ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. لَا يُفَارِقَانِ الْمُتَلَبِّسَ بِهِمَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْبَرْزَخِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ. بِخِلَافِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. فَإِنَّهُمَا يُفَارِقَانِ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِحُصُولِ مَا كَانُوا يَرْجُونَهُ، وَأَمْنِهِمْ مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَهُ. وَإِنْ كَانَ رَجَاؤُهُمْ لِمَا يَنَالُونَ مِنْ كَرَامَتِهِ دَائِمًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ رَجَاءً مَشُوبًا بِشَكٍّ. بَلْ هُوَ رَجَاءٌ وَاثِقٌ بِوَعْدٍ صَادِقٍ، مِنْ حَبِيبٍ قَادِرٍ. فَهَذَا لَوْنٌ وَرَجَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْنٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الرِّضَا سُكُونُ الْقَلْبِ إِلَى قَدِيمِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ اخْتَارَ لَهُ الْأَفْضَلَ. فَيَرْضَى بِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا رِضًا بِمَا مِنْهُ. وَأَمَّا الرِّضَا بِهِ: فَأَعْلَى مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ هُوَ رَاضٍ بِمَحْبُوبِهِ، وَبَيْنَ مَنْ هُوَ رَاضٍ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ مِنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا أَلَّا يُحِسَّ بِالْأَلَمِ وَالْمَكَارِهِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا أَلَّا يُحِسَّ بِالْأَلَمِ وَالْمَكَارِهِ. بَلْ أَلَّا يَعْتَرِضَ عَلَى الْحُكْمِ وَلَا يَتَسَخَّطَهُ. وَلِهَذَا أُشْكِلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ الرِّضَا بِالْمَكْرُوهِ، وَطَعَنُوا فِيهِ. وَقَالُوا: هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى الطَّبِيعَةِ. وَإِنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الرِّضَا وَالْكَرَاهَةُ؟ وَهُمَا ضِدَّانِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ وُجُودَ التَّأَلُّمِ وَكَرَاهَةَ النَّفْسِ لَهُ لَا يُنَافِي الرِّضَا، كَرِضَا الْمَرِيضِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، وَرِضَا الصَّائِمِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْحَرِّ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ، وَرِضَا الْمُجَاهِدِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ، وَغَيْرِهَا. وَطَرِيقُ الرِّضَا طَرِيقٌ مُخْتَصَرَةٌ، قَرِيبَةٌ جِدًّا، مُوصِلَةٌ إِلَى أَجَلِّ غَايَةٍ. وَلَكِنَّ فِيهَا مَشَقَّةً. وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَتْ مَشَقَّتُهَا بِأَصْعَبَ مِنْ مَشَقَّةِ طَرِيقِ الْمُجَاهِدَةِ. وَلَا فِيهَا مِنَ الْعَقَبَاتِ وَالْمَفَاوِزِ مَا فِيهَا. وَإِنَّمَا عَقَبَتُهَا هِمَّةٌ عَالِيَةٌ. وَنَفْسٌ زَكِيَّةٌ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى كُلِّ مَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ. وَيُسَهِّلُ ذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ: عِلْمُهُ بِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ وَرَحْمَتُهُ بِهِ، وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَبِرُّهُ بِهِ، فَإِذَا شَهِدَ هَذَا وَهَذَا، وَلَمْ يَطْرَحْ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَرْضَى بِهِ وَعَنْهُ، وَتَنْجَذِبْ دَوَاعِي حُبِّهِ وَرِضَاهُ كُلُّهَا إِلَيْهِ: فَنَفْسُهُ نَفْسٌ مَطْرُودَةٌ عَنِ اللَّهِ، بَعِيدَةٌ عَنْهُ. لَيْسَتْ مُؤَهَّلَةً لِقُرْبِهِ وَمُوَالَاتِهِ، أَوْ نَفْسٌ مُمْتَحَنَةٌ مُبْتَلَاةٌ بِأَصْنَافِ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ. فَطَرِيقُ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ: تُسَيِّرُ الْعَبْدَ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِهِ. فَيُصْبِحُ أَمَامَ الرَّكْبِ بِمَرَاحِلَ. وَثَمَرَةُ الرِّضَا: الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ بِالرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَرَأَيْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- فِي الْمَنَامِ. وَكَأَنِّي ذَكَرْتُ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ. وَأَخَذْتُ فِي تَعْظِيمِهِ وَمَنْفَعَتِهِ- لَا أَذْكُرُهُ الْآنَ- فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَطَرِيقَتِيَ: الْفَرَحُ بِاللَّهِ، وَالسُّرُورُ بِهِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْعِبَارَةِ. وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُهُ فِي الْحَيَاةِ. يَبْدُو ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَيُنَادِي بِهِ عَلَيْهِ حَالُهُ. لَكِنْ قَدْقَالَ الْوَاسِطِيٌّ: اسْتَعْمِلِ الرِّضَا جُهْدَكَ. وَلَا تَدَعِ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُكِ، فَتَكُونَ مَحْجُوبًا بِلَذَّتِهِ وَرُؤْيَتِهِ عَنْ حَقِيقَةِ مَا تُطَالِعُ. وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْوَاسِطِيُّ هُوَ عَقَبَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَمَقْطَعٌ لَهُمْ. فَإِنَّ مُسَاكَنَةَ الْأَحْوَالِ، وَالسُّكُونَ إِلَيْهَا، وَالْوُقُوفَ عِنْدَهَا اسْتِلْذَاذًا وَمَحَبَّةً: حِجَابٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ بِحُظُوظِهِمْ عَنْ مُطَالَعَةِ حُقُوقِ مَحْبُوبِهِمْ وَمَعْبُودِهِمْ. وَهِيَ عَقْبَةٌ لَا يَحُوزُهَا إِلَّا أُولُو الْعَزَائِمِ. وَكَانَ الْوَاسِطِيُّ كَثِيرَ التَّحْذِيرِ مِنْ هَذِهِ الْعَقَبَةِ. شَدِيدَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا. وَمِنْ كَلَامِهِ: إِيَّاكُمْ وَاسْتِحْلَاءَ الطَّاعَاتِ. فَإِنَّهَا سُمُومٌ قَاتِلَةٌ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: اسْتَعْمِلِ الرِّضَا جُهْدَكَ. وَلَا تَدَعِ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُكَ أَيْ لَا يَكُونُ عَمَلُكَ لِأَجْلِ حُصُولِ حَلَاوَةِ الرِّضَا، بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ الْبَاعِثَةَ لَكَ عَلَيْهِ. بَلِ اجْعَلْهُ آلَةً لَكَ وَسَبَبًا مُوصِلًا إِلَى قَصْدِكَ وَمَطْلُوبِكَ. فَتَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لَهُ، لَا أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَكَ. وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالرِّضَا، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي يَسْكُنُ إِلَيْهَا الْقَلْبُ، حَتَّى إِنَّهُ أَيْضًا لَا يَكُونُ عَامِلًا عَلَى الْمَحَبَّةِ لِأَجْلِ الْمَحَبَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالنَّعِيمِ بِهِ. بَلْ يَسْتَعْمِلُ الْمَحَبَّةَ فِي مَرْضَاةِ الْمَحْبُوبِ، لَا يَقِفُ عِنْدَهَا. فَهَذَا مِنْ عِلَلِ الْمَحَبَّةِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الرِّضَا عَلَامَاتُ الرِّضَا: تَرْكُ الِاخْتِيَارِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَفُقْدَانُ الْمَرَارَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ. وَهَيَجَانُ الْحُبِّ فِي حَشْوِ الْبَلَاءِ. وَقِيلَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: الْفَقْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْغِنَى، وَالسَّقَمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصِّحَّةِ. فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ. أَمَّا أَنَا، فَأَقُولُ: مَنِ اتَّكَلَ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ لَمْ يَتَمَنَّ غَيْرَ مَا اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ لِـ بِشْرٍ الْحَافِيِّ: الرِّضَا أَفْضَلُ مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا. لِأَنَّ الرَّاضِيَ لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ. وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَقَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَا عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا. وَالرِّضَا بَعْدَ الْقَضَا هُوَ الرِّضَا. وَقِيلَ: الرِّضَا تَعْرِيفَاتُ الرِّضَا ارْتِفَاعُ الْجَزَعِ فِي أَيِّ حُكْمٍ كَانَ. وَقِيلَ: رَفْعُ الِاخْتِيَارِ. وَقِيلَ: اسْتِقْبَالُ الْأَحْكَامِ بِالْفَرَحِ. وَقِيلَ: سُكُونُ الْقَلْبِ تَحْتَ مَجَارِي الْأَحْكَامِ. وَقِيلَ: نَظَرُ الْقَلْبِ إِلَى قَدِيمِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ. وَهُوَ تَرْكُ السَّخَطِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الرِّضَا، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَرْضَى وَإِلَّا فَاصْبِرْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: الْإِنْسَانُ خَزَفٌ. وَلَيْسَ لِلْخَزَفِ مِنَ الْخَطَرِ مَا يُعَارِضُ فِيهِ حُكْمَ الْحَقِّ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَقَامَنِي اللَّهُ فِي حَالٍ فَكَرِهْتُهُ، وَمَا نَقَلَنِي إِلَى غَيْرِهِ فَسَخِطْتُهُ. وَالرِّضَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رِضَا الْعَوَّامِّ بِمَا قَسَمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ. وَرِضَا الْخَوَاصِّ بِمَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. وَرِضَا خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ بِهِ بَدَلًا مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} لَمْ يَدَعْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُتَسَخِّطِ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وَشَرْطُ الْقَاصِدِ الدُّخُولُ فِي الرِّضَا. وَالرِّضَا اسْمٌ لِلْوُقُوفِ الصَّادِقِ، حَيْثُمَا وَقَفَ الْعَبْدُ. لَا يَلْتَمِسُ مُتَقَدَّمًا وَلَا مُتَأَخَّرًا، وَلَا يَسْتَزِيدُ مَزِيدًا. وَلَا يَسْتَبْدِلُ حَالًا. وَهُوَ مِنْ أَوَائِلِ مَسَالِكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ. وَأَشَقِّهَا عَلَى الْعَامَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَمْ يَدَعْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُتَسَخِّطِ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَلِأَنَّهُ قَيَّدَ رُجُوعَهَا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِحَالٍ. وَهُوَ وَصْفُ الرِّضَا. فَلَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ مَعَ سَلْبِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عَنْهَا. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. فَإِنَّمَا أَوْجَبَ لَهُمْ هَذَا السَّلَامَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبِشَارَةَ بِقَيْدٍ، وَهُوَ وَفَاتُهُمْ طَيِّبِينَ. فَلَمْ تُبْقِ الْآيَةُ لِغَيْرِ الطَّيِّبِ سَبِيلًا إِلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ. وَالْحَاصِلُ: أَنْ الدُّخُولَ فِي الرِّضَا شَرْطٌ فِي رُجُوعِ النَّفْسِ إِلَى رَبِّهَا. فَلَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ رَاضِيَةً. قُلْتُ: هَذَا تَعَلُّقٌ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ، لَا بِالْمُرَادِ مِنْهَا. فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا: رِضَاهَا بِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ كَرَامَتِهِ. وَبِمَا نَالَتْهُ مِنْهَا عِنْدَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ. فَحَصَلَ لَهَا رِضَاهَا، وَالرِّضَا عَنْهَا. وَهَذَا يُقَالُ لَهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ دَارِ الدُّنْيَا، وَقُدُومِهَا عَلَى اللَّهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِذَا تُوُفِّيَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِتُحْفَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ. فَيُقَالُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اخْرُجِي إِلَى رُوحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ عَنْكِ رَاضٍ. وَفِي وَقْتِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلسَّلَفِ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَهُوَ الْأَشْهَرُ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَرَادَ قَبْضَهَا اطْمَأَنَّتْ إِلَى رَبِّهَا. وَرَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ، فَيَرْضَى اللَّهُ عَنْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْثِ. هَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَ عَطَاءٍ وَ الضَّحَّاكِ وَ جَمَاعَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَلِمَةُ الْأُولَى وَهِيَ {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} تُقَالُ لَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ. وَالْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ- وَهِيَ {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} تُقَالُ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} هَذَا عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الدُّنْيَا. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ لَهَا {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُقَالُ لَهَا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَإِنَّ أَوَّلَ بَعْثِهَا عِنْدَ مُفَارَقَتِهَا الدُّنْيَا، وَحِينَئِذٍ فَهِيَ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، إِنْ كَانَتْ مُطْمَئِنَّةً إِلَى اللَّهِ، وَفِي جَنَّتِهِ. كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ لَهَا ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَمَامُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ. فَأَوَّلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَتَمَامُهُ وَنِهَايَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا اخْتِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَكِنَّ الشَّيْخَ أَخَذَ مِنْ إِشَارَةِ الْآيَةِ: أَنَّ رُجُوعَهَا إِلَى اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِرِضَاهَا. وَلَكِنْ لَوِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ فِي مَقَامِ الطُّمَأْنِينَةِ لَكَانَ أَوْلَى، فَإِنَّ هَذَا الرُّجُوعَ الَّذِي حَصَلَ لَهَا فِيهِ رِضَاهَا وَالرِّضَا عَنْهَا: إِنَّمَا نَالَتْهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ. وَهُوَ حَظُّ الْكَسْبِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَوْضِعُ التَّنْبِيهِ عَلَى مَوْقِعِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَمَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِهَا. فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: الرِّضَا هُوَ الْوُقُوفُ الصَّادِقُ. يُرِيدُ بِهِ الْوُقُوفَ مَعَ مُرَادِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الدِّينِيَّ حَقِيقَةً، مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ وَلَا مُعَارَضَةٍ. وَهَذَا مَطْلُوبُ الْقَوْمِ السَّابِقِينَ. وَهُوَ الْوُقُوفُ الصَّادِقُ مَعَ مَحَابِّ الرَّبِّ تَعَالَى، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشُوبَ ذَلِكَ تُرَدُّدٌ، وَلَا يُزَاحِمَهُ مُرَادٌ. قَوْلُهُ: حَيْثُمَا وَقَفَ الْعَبْدُ. يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فَاعِلًا. أَيْ حَيْثُ مَا وَقَفَ بِإِذْنِ رَبِّهِ لَا يَلْتَمِسُ تَقَدُّمًا وَلَا تَأَخُّرًا. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا، وَهُوَ أَظْهَرُ. أَيْ حَيْثُمَا وَقَفَ اللَّهُ الْعَبْدَ- فَإِنَّ وَقَفَ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا- أَيْ حَيْثُمَا وَقَفَهُ رَبُّهُ. لَا يَطْلُبُ تَقَدُّمًا وَلَا تَأَخُّرًا. وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَقِفُهُ فِيهِ مِنْ مُرَادِهِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَأَمَّا إِذَا وَقَفَهُ فِي مُرَادٍ دِينِيٍّ، فَكَمَالُهُ بِطَلَبِ التَّقَدُّمِ فِيهِ دَائِمًا. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ هِمَّتُهُ التَّقَدُّمَ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ: رَجَعَ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي. فَلَا وُقُوفَ فِي الطَّرِيقِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَفَ فِي مَقَامٍ- مِنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالرَّاحَةِ وَالتَّعَبِ، وَالْعَافِيَةِ وَالسَّقَمِ، وَالِاسْتِيطَانِ وَمُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ- يَقِفُ حَيْثُ وَقَفَهُ. لَا يَطْلُبُ غَيْرَ تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي أَقَامَهُ اللَّهُ فِيهَا. وَهَذَا لِتَصْحِيحِ رِضَاهُ بِاخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ، وَالْفِنَاءِ بِهِ عَنِ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا يَسْتَزِيدُ مَزِيدًا، وَلَا يَسْتَبْدِلُ حَالًا. هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الرِّضَا، وَهُوَ الرِّضَا بِالْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي لَمْ يُؤْمَرُ بِمُدَافَعَتِهَا. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مِنْ أَوَائِلِ مَسَالِكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ يَعْنِي أَنَّ سُلُوكَ أَهْلِ الْخُصُوصِ: هُوَ بِالْخُرُوجِ عَنِ النَّفْسِ، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْإِرَادَةِ: هُوَ مَبْدَأُ الْخُرُوجِ عَنِ النَّفْسِ. فَإِذَا الرِّضَا- بِهَذَا الِاعْتِبَارِ- مِنْ أَوَائِلِ مَسَالِكِ الْخَاصَّةِ. وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ فِي كَوْنِ الْفَنَاءِ غَايَةً مَطْلُوبَةً فَوْقَ الرِّضَا. وَالصَّوَابُ: أَنَّ الرِّضَا أَجَلُّ مِنْهُ وَأَعْلَى. وَهُوَ غَايَةٌ لَا بِدَايَةٌ. نَعَمْ فَوْقَهُ مَقَامُ الشُّكْرِ فَهُوَ مَنْزِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْزِلَةِ الصَّبْرِ. وَقَوْلُهُ: وَأَشَقِّهَا عَلَى الْعَامَّةِ وَذَلِكَ لِمَشَقَّةِ الْخُرُوجِ عَنِ الْحُظُوظِ عَلَى الْعَامَّةِ، وَالرِّضَا أَوَّلُ مَا فِيهِ: الْخُرُوجُ عَنِ الْحُظُوظِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رِضَا الْعَامَّةِ. وَهُوَ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَتَسَخُّطُ عِبَادَةِ مَا دُونِهِ، وَهَذَا قُطْبُ رَحَى الْإِسْلَامِ. وَهُوَ يُطَهِّرُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ. الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا: أَنْ لَا يَتَّخِذَ رَبًّا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى يَسْكُنُ إِلَى تَدْبِيرِهِ. وَيُنْزِلُ بِهِ حَوَائِجَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سَيِّدًا وَإِلَهًا. يَعْنِي فَكَيْفَ أَطْلُبُ رَبًّا غَيْرَهُ، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ؟ وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَعْنِي مَعْبُودًا وَنَاصِرًا وَمُعِينًا وَمَلْجَأً. وَهُوَ مِنَ الْمُوَالَاةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْحُبَّ وَالطَّاعَةَ. وَقَالَ فِي وَسَطِهَا {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} أَيْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي مَنْ يَحْكُمُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَنَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ؟ وَهَذَا كِتَابُهُ سَيِّدُ الْحُكَّامِ، فَكَيْفَ نَتَحَاكَمُ إِلَى غَيْرِ كِتَابِهِ؟ وَقَدْ أَنْزَلَهُ مُفَصَّلًا، مُبَيَّنًا كَافِيًا شَافِيًا. وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ حَقَّ التَّأَمُّلِ، رَأَيْتَهَا هِيَ نَفْسَ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، وَرَأَيْتَ الْحَدِيثَ يُتَرْجِمُ عَنْهَا، وَمُشْتَقًّا مِنْهَا. فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَرْضَى بِاللَّهِ رَبًّا، وَلَا يَبْغِي رَبًّا سِوَاهُ، لَكِنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ وَحْدَهُ وَلِيًّا وَنَاصِرًا. بَلْ يُوَالِي مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ مُوَالَاتَهُمْ كَمُوَالَاةِ خَوَاصِّ الْمَلِكِ. وَهَذَا عَيْنُ الشِّرْكِ. بَلِ التَّوْحِيدُ: أَنْ لَا يَتَّخِذَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ وَصْفِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. وَهَذَا غَيْرُ مُوَالَاةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ. فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَمِنْ تَمَامِ مُوَالَاتِهِ. فَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ لَوْنٌ وَاتِّخَاذُ الْوَلِيِّ مِنْ دُونِهِ لَوْنٌ. وَمَنْ لَمْ يَفْهَمِ الْفُرْقَانَ بَيْنَهُمَا فَلْيَطْلُبِ التَّوْحِيدَ مِنْ أَسَاسِهِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَصْلُ التَّوْحِيدِ وَأَسَاسُهُ. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَبْتَغِي غَيْرَهُ حَكَمًا، يَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ، وَيُخَاصِمُ إِلَيْهِ، وَيَرْضَى بِحُكْمِهِ. وَهَذِهِ الْمَقَامَاتُ الثَّلَاثُ هِيَ أَرْكَانُ التَّوْحِيدِ: أَنْ لَا يَتَّخِذَ سِوَاهُ رَبًّا، وَلَا إِلَهًا، وَلَا غَيْرَهُ حَكَمًا. وَتَفْسِيرُ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا: أَنْ يَسْخَطَ عِبَادَةَ مَا دُونَهُ. هَذَا هُوَ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا. وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا. فَمَنْ أُعْطِيَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا حَقُّهُ سُخْطُ عِبَادَةِ مَا دُونَهُ قَطْعًا. لِأَنَّ الرِّضَا بِتَجْرِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ يَسْتَلْزِمُ تَجْرِيدَ عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ قُطْبُ رَحَى الْإِسْلَامِ يَعْنِي أَنَّ مَدَارَ رَحَى الْإِسْلَامِ عَلَى أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ يَسْخَطَ عِبَادَةَ غَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْحُبُّ مَعَ الذُّلِّ. فَكُلُّ مَنْ ذَلَلْتَ لَهُ وَأَطَعْتَهُ وَأَحْبَبْتَهُ دُونَ اللَّهِ، فَأَنْتَ عَابِدٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُطَهِّرُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ. يَعْنِي أَنَّ الشِّرْكَ نَوْعَانِ: أَكْبَرُ، وَأَصْغَرُ، فَهَذَا الرِّضَا يُطَهِّرُ صَاحِبَهُ مِنَ الْأَكْبَرِ. وَأَمَّا الْأَصْغَرُ: فَيُطَهِّرُ مِنْهُ نُزُولُهُ مَنْزِلَةَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
قَالَ وَهُوَ يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْعَبْدِ. وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ. يَعْنِي أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الرِّضَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَيْضًا. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَى الْعَبْدِ. وَهَذِهِ تُعْرَفُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَيْضًا. أَحَدُهَا: أَنْ تَسْبِقَ مَحَبَّتُهُ إِلَى الْقَلْبِ كُلَّ مَحَبَّةٍ. فَتَتَقَدَّمَ مَحَبَّتُهُ الْمَحَابَّ كُلَّهَا. الثَّانِي: أَنْ تَقْهَرَ مَحَبَّتُهُ كُلَّ مَحَبَّةٍ. فَتَكُونَ مَحَبَّتُهُ إِلَى الْقَلْبِ سَابِقَةً قَاهِرَةً، وَمَحَبَّةُ غَيْرِهِ مُتَخَلِّفَةً مَقْهُورَةً مَغْلُوبَةً مُنْطَوِيَةً فِي مَحَبَّتِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ غَيْرِهِ تَابِعَةً لِمَحَبَّتِهِ. فَيَكُونَ هُوَ الْمَحْبُوبَ بِالذَّاتِ وَالْقَصْدَ الْأَوَّلَ. وَغَيْرُهُ مَحُبُوبًا تَبَعًا لِحُبِّهِ. كَمَا يُطَاعُ تَبَعًا لِطَاعَتِهِ. فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْمُطَاعُ الْمَحْبُوبُ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي كَوْنِهِ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ وَالطَّاعَةِ أَيْضًا. فَالْحَاصِلُ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَحْدَهُ الْمَحْبُوبَ الْمُعَظَّمَ الْمُطَاعَ. فَمَنْ لَمْ يُحِبَّهُ وَلَمْ يُطِعْهُ. وَلَمْ يُعَظِّمْهُ: فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ عَلَيْهِ. وَمَتَى أَحَبَّ مَعَهُ سِوَاهُ، وَعَظَّمَ مَعَهُ سِوَاهُ، وَأَطَاعَ مَعَهُ سِوَاهُ: فَهُوَ مُشْرِكٌ. وَمَتَى أَفْرَدَهُ وَحْدَهُ بِالْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ وَالطَّاعَةِ فَهُوَ عَبْدٌ مُوَحِّدٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الرِّضَا عَنِ اللَّهِ. وَبِهَذَا نَطَقَتْ آيَاتُ التَّنْزِيلِ. وَهُوَ الرِّضَا عَنْهُ فِي كُلِّ مَا قَضَى وَقَدَّرَ. وَهَذَا مِنْ أَوَائِلِ مَسَالِكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ. الشَّيْخُ جَعَلَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَعْلَى مِنَ الدَّرَجَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بِالدَّرَجَةِ الْأُولَى. فَإِذَا اسْتَقَرَّ قَدَمُهُ عَلَيْهَا دَخَلَ فِي مَقَامِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا هَذِهِ الدَّرَجَةُ: فَمِنْ مُعَامَلَاتِ الْقُلُوبِ. وَهِيَ لِأَهْلِ الْخُصُوصِ. وَهِيَ الرِّضَا عَنْهُ فِي أَحْكَامِهِ وَأَقْضِيَتِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَوَّلِ مَسَالِكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْخُرُوجِ عَنِ النَّفْسِ، وَالَّذِي هُوَ طَرِيقُ أَهْلِ الْخُصُوصِ، فَمُقَدِّمَتُهُ بِدَايَةُ سُلُوكِهِمْ. لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ خُرُوجَ الْعَبْدِ عَنْ حُظُوظِهِ، وَوُقُوفَهُ مَعَ مُرَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَا مَعَ مُرَادِ نَفْسِهِ. هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِ. وَفِي جَعْلِهِ هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَعْلَى مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَهُوَ نَظِيرُ جَعْلِهِ الصَّبْرَ بِاللَّهِ أَعْلَى مِنَ الصَّبْرِ لِلَّهِ. وَالَّذِي يَنْبَغِي: أَنْ تَكُونَ الدَّرَجَةُ الْأَوْلَى أَعْلَى شَأْنًا وَأَرْفَعَ قَدْرًا. فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مُشْتَرَكَةٌ. فَإِنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ يَصِحُّ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَغَايَتُهُ التَّسْلِيمُ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ. فَأَيْنَ هَذَا مِنَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا وَإِلَهًا وَمَعْبُودًا؟ وَأَيْضًا فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا فَرْضٌ. بَلْ هُوَ مِنْ آكَدِ الْفُرُوضِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبًّا، لَمْ يَصِحَّ لَهُ إِسْلَامٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا حَالٌ. وَأَمَّا الرِّضَا بِقَضَائِهِ: فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ وَاجِبٌ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّدْبِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ أَفْضَلُ وَأَعْلَى مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ الرِّضَا عَنْهُ، وَيَسْتَلْزِمُهُ. فَإِنَّ الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ: هُوَ رِضَا الْعَبْدِ بِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَيَنْهَاهُ عَنْهُ، وَيَقْسِمُهُ لَهُ وَيُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ، وَيُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ. فَمَتَى لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَضِيَ بِهِ رَبًّا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. وَإِنْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ رَبًّا مِنْ بَعْضِهَا. فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ: يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا عَنْهُ، وَيَتَضَمَّنُهُ بِلَا رَيْبٍ. وَأَيْضًا: فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا مُتَعَلِّقٌ بِذَاتِهِ، وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَهُوَ الرِّضَا بِهِ خَالِقًا وَمُدَبِّرًا، وَآمِرًا وَنَاهِيًا، وَمَلِكًا , وَمُعْطِيًا وَمَانِعًا، وَحَكَمًا، وَوَكِيلًا وَوَلِيًّا، وَنَاصِرًا وَمُعِينًا، وَكَافِيًا وَحَسِيبًا وَرَقِيبًا، وَمُبْتَلِيًا وَمُعَافِيًا، وَقَابِضًا وَبَاسِطًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ. وَأَمَّا الرِّضَا عَنْهُ: فَهُوَ رِضَا الْعَبْدِ بِمَا يَفْعَلُهُ بِهِ، وَيُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِي الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} فَهَذَا بِرِضَاهَا عَنْهُ لِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ كَرَامَتِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}. وَالرِّضَا بِهِ: أَصْلُ الرِّضَا عَنْهُ، وَالرِّضَا عَنْهُ: ثَمَرَةُ الرِّضَا بِهِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرِّضَا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَالرِّضَا عَنْهُ: مُتَعَلِّقٌ بِثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ بِمَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا. وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا.. فَجَعَلَ الرِّضَا بِهِ قَرِينَ الرِّضَا بِدِينِهِ وَنَبِيِّهِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُصُولُ الْإِسْلَامِ، الَّتِي لَا يَقُومُ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا. وَأَيْضًا: فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَهُ وَعِبَادَتَهُ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَخَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَالصَّبْرَ لَهُ وَبِهِ. وَالشُّكْرُ عَلَى نِعَمِهِ: يَتَضَمَّنُ رُؤْيَةَ كُلِّ مَا مِنْهُ نِعْمَةً وَإِحْسَانًا، وَإِنْ سَاءَ عَبْدُهُ. فَالرِّضَا بِهِ يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالرِّضَا بِمُحَمَّدٍ رَسُولًا يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ أَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَالرِّضَا بِالْإِسْلَامِ دِينًا: يَتَضَمَّنُ الْتِزَامَ عُبُودِيَّتِهِ، وَطَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ. فَجَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الدِّينَ كُلَّهُ. وَأَيْضًا: فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ اتِّخَاذَهُ مَعْبُودًا دُونَ مَا سِوَاهُ. وَاتِّخَاذَهُ وَلِيًّا وَمَعْبُودًا، وَإِبْطَالَ عِبَادَةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} وقال: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} وقال: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}. فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الرِّضَا بِهِ رَبًّا. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَعَلَ حَقِيقَةَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا: أَنْ يَسْخَطَ عِبَادَةَ مَا دُونَهُ. فَمَتَى سَخِطَ الْعَبْدُ عِبَادَةَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنَ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، حُبًّا وَخَوْفًا، وَرَجَاءً وَتَعْظِيمًا، وَإِجْلَالًا- فَقَدْ تَحَقَّقَ بِالرِّضَا بِهِ رَبًّا، الَّذِي هُوَ قُطْبُ رَحَى الْإِسْلَامِ. وَإِنَّمَا كَانَ قُطْبَ رَحَى الدِّينِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَحْوَالِ: إِنَّمَا تَنْبَنِي عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْعِبَادَةِ، وَسُخْطِ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْقُطْبُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَحًى تَدُورُ عَلَيْهِ. وَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْقُطْبُ ثَبَتَتْ لَهُ الرَّحَى. وَدَارَتْ عَلَى ذَلِكَ الْقُطْبِ. فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ مِنْ دَائِرَةِ الشِّرْكِ إِلَى دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ. فَتَدُورُ رَحَى إِسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ عَلَى قُطْبِهَا الثَّابِتِ اللَّازِمِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَعَلَ حُصُولَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الرِّضَا مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِ الْمَرْضِيِّ بِهِ رَبًّا- سُبْحَانَهُ- أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَجْمَعُ قَوَاعِدَ الْعُبُودِيَّةِ، وَيُنَّظِمُ فُرُوعَهَا وَشُعَبَهَا. وَلَمَّا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ مَيْلَ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ: كَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ حَامِلًا عَلَى طَاعَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ. وَكُلَّمَا كَانَ الْمَيْلُ أَقْوَى: كَانَتِ الطَّاعَةُ أَتَمَّ، وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرَ. وَهَذَا الْمَيْلُ يُلَازِمُ الْإِيمَانَ، بَلْ هُوَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَلُبُّهُ. فَأَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ أَعْلَى مِنْ أَمْرٍ يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْعَبْدِ، وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ؟ وَبِهَذَا يَجِدُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ. كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ- بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ. فَعَلَّقَ ذَوْقَ الْإِيمَانِ بِالرِّضَا بِاللَّهِ رَبًا. وَعَلَّقَ وُجُودَ حَلَاوَتِهِ بِمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْعَبْدِ هُوَ وَرَسُولُهُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحُبُّ التَّامُّ، وَالْإِخْلَاصُ- الَّذِي هُوَ ثَمَرَتُهُ- أَعْلَى مِنْ مُجَرَّدِ الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ: كَانَتْ ثَمَرَتُهُ أَعْلَى. وَهُوَ وَجْدُ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ. وَثَمَرَةُ الرِّضَا: ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ. فَهَذَا وَجْدُ حَلَاوَةٍ، وَذَلِكَ ذَوْقُ طَعْمٍ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَإِنَّمَا تَرَتَّبَ هَذَا وَهَذَا عَلَى الرِّضَا بِهِ وَحْدَهُ رَبًّا، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَا سِوَاهُ، وَمِيلِ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْهِ، وَانْجِذَابِ قُوَى الْمُحِبِّ كُلِّهَا إِلَيْهِ. وَرِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ تَابِعٌ لِهَذَا الرِّضَا بِهِ. فَمَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا رَضِيَهُ اللَّهُ لَهُ عَبْدًا. وَمَنْ رَضِيَ عَنْهُ فِي عَطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَبَلَائِهِ وَعَافِيَتِهِ: لَمْ يَنَلْ بِذَلِكَ دَرَجَةَ رِضَا الرَّبِّ عَنْهُ، إِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبًّا، وَبِنَبِيِّهِ رَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَرْضَى عَنِ اللَّهِ رَبِّهِ فِيمَا أَعْطَاهُ وَفِيمَا مَنَعَهُ، وَلَكِنْ لَا يَرْضَى بِهِ وَحْدَهُ مَعْبُودًا وَإِلَهًا. وَلِهَذَا إِنَّمَا ضَمِنَ رِضَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ رَضِيَ بِهِ رَبًّا. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَ كُلَّ يَوْمٍ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا: إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَالَ: وَبِهَذَا الرِّضَا نَطَقَ التَّنْزِيلُ. يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: عز وجل: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَفِي آخِرِ سُورَةِ لَمْ يَكُنِ {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ: جَزَاءَهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَائِهِ، وَعَدَمِ وِلَايَتِهِمْ، بِأَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَأَرْضَاهُمْ. فَرَضُوا عَنْهُ. وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ هَذَا بَعْدَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا. قَوْلُهُ: وَهُوَ الرِّضَا عَنْهُ فِي كُلِّ مَا قَضَى. هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: الرِّضَاءُ بِاللَّهِ، وَالرِّضَا عَنِ اللَّهِ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ. فَالرِّضَا بِهِ فَرْضٌ. وَالرِّضَا عَنْهُ- وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجَلِّ الْأُمُورِ وَأَشْرَفِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ- فَلَمْ يُطَالِبْ بِهِ الْعُمُومَ. لِعَجْزِهِمْ وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ. وَأَوْجَبَتْهُ طَائِفَةٌ كَمَا أَوْجَبُوا الرِّضَا بِهِ، وَاحْتَجُّوا بِحُجَجٍ. مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ فَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيْهِ. إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الرِّضَا وَالسَّخَطِ. وَسَخَطُ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ مُنَافٍ لِرِضَاهُ بِهِ رَبًّا. قَالُوا: وَأَيْضًا فَعَدَمُ رِضَاهُ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ سُوءَ ظَنِّهِ بِهِ، وَمُنَازَعَتَهُ لَهُ فِي اخْتِيَارِهِ لِعَبْدِهِ، وَأَنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَخْتَارُ شَيْئًا وَيَرْضَاهُ فَلَا يَخْتَارُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَرْضَاهُ، وَهَذَا مُنَافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ. قَالُوا: وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي. فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوَايَ. وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يَتَخَلَّصُ مِنَ السَّخَطِ عَلَى رَبِّهِ إِلَّا بِالرِّضَا عَنْهُ. إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الرِّضَا وَالسَّخَطِ- فَكَلَامٌ مَدْخُولٌ. لِأَنَّ السُّخْطَ بِالْمَقْضِيِّ لَا يَسْتَلْزِمُ السُّخْطَ عَلَى مَنْ قَضَاهُ، كَمَا أَنَّ كَرَاهَةَ الْمَقْضِيِّ وَبُغْضَهُ وَالنُّفْرَةَ عَنْهُ لَا تَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ ذَلِكَ بِالَّذِي قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ. فَالْمَقْضِيُّ قَدْ يَسْخَطُهُ الْعَبْدُ وَهُوَ رَاضٍ عَمَّنْ قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ. بَلْ قَدْ يَجْتَمِعُ تَسَخُّطُهُ وَالرِّضَا بِنَفْسِ الْقَضَاءِ. كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ سُوءَ ظَنِّ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ وَمُنَازَعَتَهُ لَهُ فِي اخْتِيَارِهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ هُوَ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَبِّهِ فِي الْحَالَتَيْنِ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَسْخَطُ الْمَقْدُورَ وَيُنَازِعُهُ بِمَقْدُورٍ آخَرَ. كَمَا يُنَازِعُ الْقَدَرَ الَّذِي يَكْرَهُهُ رَبُّهُ بِالْقَدَرِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. فَيُنَازِعُ قَدَرَ اللَّهِ بِقَدَرِ اللَّهِ بِاللَّهِ لِلَّهِ، كَمَا يَسْتَعِيذُ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ، وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْهُ. فَأَمَّا كَوْنُهُ يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ خِلَافَ مَا يَخْتَارُهُ الرَّبُّ فَهَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ. لَا يُسْحَبُ عَلَيْهِ ذَيْلُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. فَاخْتِيَارُ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: اخْتِيَارٌ دِينِيٌّ شَرْعِيٌّ. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ لَا يَخْتَارَ فِي هَذَا النَّوْعِ غَيْرَ مَا اخْتَارَهُ لَهُ سَيِّدُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فَاخْتِيَارُ الْعَبْدِ خِلَافَ ذَلِكَ مُنَافٍ لِإِيمَانِهِ وَتَسْلِيمِهِ، وَرِضَاهُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا. النَّوْعُ الثَّانِي: اخْتِيَارٌ كَوْنِيٌّ قَدَرِيٌّ. لَا يَسْخَطُهُ الرَّبُّ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي يَبْتَلِي اللَّهُ بِهَا عَبْدَهُ. فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ فِرَارُهُ مِنْهَا إِلَى الْقَدَرِ الَّذِي يَرْفَعُهَا عَنْهُ، وَيَدْفَعُهَا وَيَكْشِفُهَا. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُنَازَعَةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُنَازَعَةٌ لِلْقَدَرِ بِالْقَدَرِ. فَهَذَا يَكُونُ تَارَةً وَاجِبًا، وَتَارَةً يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَتَارَةً يَكُونُ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ، وَتَارَةً يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَتَارَةً يَكُونُ حَرَامًا. وَأَمَّا الْقَدَرُ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ- مِثْلَ قَدَرِ الْمَعَائِبِ وَالذُّنُوبِ- فَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِسَخَطِهَا. وَمَنْهِيٌّ عَنِ الرِّضَا بِهَا. وَهَذَا هُوَ التَّفْصِيلُ الْوَاجِبُ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. وَقَدِ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ اضْطِرَابًا عَظِيمًا. وَنَجَا مِنْهُ أَصْحَابُ الْفِرَقِ وَالتَّفْصِيلِ. فَإِنَّ لَفْظَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ لَفْظٌ مَحْمُودٌ مَأْمُورٌ بِهِ. وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ. فَصَارَتْ لَهُ حُرْمَةٌ أَوْجَبَتْ لِطَائِفَةٍ قَبُولَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَخْلُوقًا لِلرَّبِّ تَعَالَى فَهُوَ مَقْضِيٌّ مَرَضِيٌّ لَهُ. يَنْبَغِي لَهُ الرِّضَا بِهِ. ثُمَّ انْقَسَمُوا عَلَى فِرْقَتَيْنِ. فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ وَالرِّضَا مُتَلَازِمَيْنِ. فَمَعْلُومٌ أَنَّا مَأْمُورُونَ بِبُغْضِ الْمَعَاصِي، وَالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ. فَلَا تَكُونُ مَقْضِيَّةً مُقْدَّرَةً. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: قَدْ دَلَّ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ عَلَى أَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ. فَنَحْنُ نَرْضَى بِهَا. وَالطَّائِفَتَانِ مُنْحَرِفَتَانِ، جَائِرَتَانِ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ. فَأُولَئِكَ أَخْرَجُوهَا عَنْ قَضَاءِ الرَّبِّ وَقَدَرِهِ. وَهَؤُلَاءِ رَضُوا بِهَا وَلَمْ يَسْخَطُوهَا. هَؤُلَاءِ خَالَفُوا الرَّبَّ تَعَالَى فِي رِضَاهُ وَسَخَطِهِ. وَخَرَجُوا عَنْ شَرْعِهِ وَدِينِهِ. وَأُولَئِكَ أَنْكَرُوا تَعَلُّقَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ بِهَا. وَاخْتَلَفَتْ طُرُقُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لِلْقَدَرِ وَالشَّرْعِ فِي جَوَابِ الطَّائِفَتَيْنِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ وَلَا الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الرِّضَا بِكُلِّ قَضَاءٍ، فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ، فَأَيْنَ أَمْرُ اللَّهِ عِبَادَهُ أَوْ رَسُولَهُ: أَنْ يَرْضَوْا بِكُلِّ مَا قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ؟ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَبِهِ أَجَابَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَرْضَوْنَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ؟ قِيلَ لَهُ: نَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ، الَّذِي أَمَرَنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ. وَلَا نَرْضَى مِنْ ذَلِكَ مَا نَهَانَا عَنْهُ أَنْ نَرْضَى بِهِ. وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا نَعْتَرِضُ عَلَى حُكْمِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: يُطْلَقُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، دُونَ تَفَاصِيلِ الْمَقْضِيِّ الْمُقَدَّرِ. فَنَقُولُ: نَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ جُمْلَةً وَلَا نَسْخَطُهُ. وَلَا نُطْلِقُ الرِّضَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تَفَاصِيلِ الْمَقْضِيِّ. كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: كُلُّ شَيْءٍ يَبِيدُ وَيَهْلِكُ. وَلَا يَقُولُونَ: حُجَجُ اللَّهِ تَبِيدُ وَتَهْلِكُ. وَيَقُولُونَ: اللَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ. وَلَا يُضِيفُونَ رُبُوبِيَّتَهُ إِلَى الْأَعْيَانِ الْمُسْتَخْبِثَةِ الْمُسْتَقْذَرَةِ بِخُصُوصِهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: نَرْضَى بِهَا مِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهَا إِلَى الرَّبِّ خَلْقًا وَمَشِيئَةً، وَنسْخَطُهَا مِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهَا إِلَى الْعَبْدِ كَسْبًا لَهُ وَقِيَامًا بِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ نَرْضَى بِالْقَضَاءِ وَنَسْخَطُ الْمَقْضِيَّ. فَالرِّضَا وَالسَّخَطُ لَمْ يَتَعَلَّقَا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ. وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ لَا يَتَمَشَّى شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى أُصُولِ مَنْ يَجْعَلُ مَحَبَّةَ الرَّبِّ تَعَالَى وَرِضَاهُ وَمَشِيئَتَهُ وَاحِدَةً، كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَكْثَرِ أَتْبَاعِهِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ كُلَّ مَا شَاءَهُ وَقَضَاهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ، وَإِذَا كَانَ الْكَوْنُ مَحْبُوبًا لَهُ مَرْضِيًّا، فَنَحْنُ نُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ، وَنَرْضَى مَا رَضِيَهُ. وَقَوْلُكُمْ: إِنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ يُطْلَقُ جُمْلَةً وَلَا يُطْلَقُ تَفْصِيلًا. فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ دُخُولَهُ فِي جُمْلَةِ الْمَرْضِيِّ بِهِ. فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ. وَقَوْلُكُمْ: نَرْضَى بِهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا خَلْقًا لِلَّهِ، وَنَسْخَطُهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كَسْبًا لِلْعَبْدِ: فَكَسْبُ الْعَبْدِ إِنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا فَهُوَ خَلْقٌ لِلَّهِ فَنَرْضَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا عَدَمِيًّا فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ تُرْضِي وَلَا تُسْخِطُ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: نَرْضَى بِالْقَضَاءِ دُونَ الْمَقْضِيِّ: فَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْقَضَاءَ غَيْرَ الْمَقْضِيِّ، وَالْفِعْلَ غَيْرَ الْمَفْعُولِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا: فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا عَلَى أَصْلِهِ؟. وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا السُّؤَالَ، فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: الْقَضَاءُ عِنْدَكُمْ هُوَ الْمَقْضِيُّ، أَوْ غَيْرُهُ؟ قِيلَ: هُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ. فَالْقَضَاءُ- بِمَعْنَى الْخَلْقِ- هُوَ الْمَقْضِيُّ. لِأَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ. وَالْقَضَاءُ- الَّذِي هُوَ الْإِلْزَامُ وَالْإِعْلَامُ وَالْكِتَابَةُ- غَيْرُ الْمَقْضِيِّ. لِأَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ الْمَأْمُورِ. وَالْخَبَرَ غَيْرُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يُخَلِّصُهُ أَيْضًا. لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الْإِلْزَامِ وَالْإِعْلَامِ وَالْكِتَابَةِ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ الْمَقْدُورِ، الْمُعْلَمِ بِهِ الْمَكْتُوبِ: هَلْ مُقَدِّرُهُ وَكَاتِبُهُ سُبْحَانَهُ رَاضٍ بِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلِ الْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالرِّضَا بِهِ نَفْسِهِ أَمْ لَا؟ هَذَا هُوَ حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ. وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَنْ جَعَلَ مَشِيئَتَهُ وَقَضَاءَهُ مُسْتَلْزِمَانِ لِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ. فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَيْئًا وَاحِدًا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} وقال تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقال تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}. فَهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى مَحَبَّتِهِ لِشِرْكِهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُ بِمَشِيئَتِهِ لِذَلِكَ. وَعَارَضُوا بِهَذَا الدَّلِيلِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. وَفِيهِ أَبْيَنُ الرَّدِّ لِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ مَشِيئَتَهُ غَيْرَ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ. فَالْإِشْكَالُ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ جَعَلْهِمُ الْمَشِيئَةَ نَفْسَ الْمَحَبَّةِ. ثُمَّ زَادُوهُ بِجَعْلِهِمُ الْفِعْلَ نَفْسَ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ عَيْنَ الْمَقْضِيِّ. فَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ إِلْزَامُهُمْ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَاضِيًا مُحِبًّا لِذَلِكَ. وَالْتِزَامُ رِضَاهُمْ بِهِ. وَالَّذِي يَكْشِفُ هَذِهِ الْغُمَّةَ، وَيُبْصِرُ مِنْ هَذِهِ الْعِمَايَةِ، وَيُنْجِي مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ: إِنَّمَا هُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَهُوَ الْمَشِيئَةُ وَالْمَحَبَّةُ. فَإِنَّهُمَا لَيْسَا وَاحِدًا. وَلَا هُمَا مُتَلَازِمَيْنِ. بَلْ قَدْ يَشَاءُ مَا لَا يُحِبُّهُ، وَيُحِبُّ مَا لَا يَشَاءُ كَوْنَهُ. فَالْأَوَّلُ: كَمَشِيئَتِهِ لِوُجُودِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ. وَمَشِيئَتِهِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ مَا فِي الْكَوْنِ مَعَ بُغْضِهِ لِبَعْضِهِ. وَالثَّانِي: كَمَحَبَّتِهِ إِيمَانَ الْكُفَّارِ، وَطَاعَاتِ الْفُجَّارِ، وَعَدْلَ الظَّالِمِينَ، وَتَوْبَةَ الْفَاسِقِينَ. وَلَوْ شَاءَ ذَلِكَ لَوُجِدَ كُلُّهُ وَكَانَ جَمِيعُهُ. فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ. وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ، وَأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَأْمُرْ عِبَادَهُ بِالرِّضَا بِكُلِّ مَا خَلَقَهُ وَشَاءَهُ: زَالَتِ الشُّبَهَاتُ. وَانْحَلَّتِ الْإِشْكَالَاتُ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ شَرْعِ الرَّبِّ وَقَدَرِهِ تُنَاقُضٌ، بِحَيْثُ يُظَنُّ إِبْطَالُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، بَلِ الْقَدَرُ يَنْصُرُ الشَّرْعَ. وَالشَّرْعُ يُصَدِّقُ الْقَدَرَ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُحَقِّقُ الْآخَرَ. إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ وَاجِبٌ، وَهُوَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ وَقَاعِدَةُ الْإِيمَانِ. فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِهِ بِلَا حَرَجٍ، وَلَا مُنَازَعَةٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ، وَلَا اعْتِرَاضٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. فَأَقْسَمَ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَهُ، وَحَتَّى يَرْتَفِعَ الْحَرَجُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مِنْ حُكْمِهِ، وَحَتَّى يُسَلِّمُوا لِحُكْمِهِ تَسْلِيمًا. وَهَذَا حَقِيقَةُ الرِّضَا بِحُكْمِهِ. فَالتَّحْكِيمُ: فِي مَقَامِ الْإِسْلَامِ. وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ: فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ. وَالتَّسْلِيمُ: فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَمَتَّى خَالَطَ الْقَلْبَ بَشَاشَةُ الْإِيمَانِ، وَاكْتَحَلَتْ بَصِيرَتُهُ بِحَقِيقَةِ الْيَقِينِ، وَحَيَّى بِرُوحِ الْوَحْيِ، وَتَمَهَّدَتْ طَبِيعَتُهُ، وَانْقَلَبَتِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ مُطَمَئِنَّةً رَاضِيَةً وَادِعَةً، وَتَلَقَّى أَحْكَامَ الرَّبِّ تَعَالَى بِصَدْرٍ وَاسِعٍ مُنْشَرِحٍ مُسْلِمٍ: فَقَدْ رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا بِهَذَا الْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ، الْمُوَافِقِ لِمَحَبَّةِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ وَرِضَاهُ- مِنَ الصِّحَّةِ، وَالْغِنَى، وَالْعَافِيَةِ، وَاللَّذَّةِ- أَمْرٌ لَازِمٌ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ. لِأَنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَبْدِ، مَحْبُوبٌ لَهُ. فَلَيْسَ فِي الرِّضَا بِهِ عُبُودِيَّةٌ. بَلِ الْعُبُودِيَّةُ فِي مُقَابَلَتِهِ بِالشُّكْرِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْمِنَّةِ، وَوَضْعِ النِّعْمَةِ مَوَاضِعَهَا الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ تُوضَعَ فِيهَا، وَأَنْ لَا يُعْصَى الْمُنْعِمُ بِهَا، وَأَنْ يُرَى التَّقْصِيرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ، الْجَارِي عَلَى خِلَافِ مُرَادِ الْعَبْدِ وَمَحَبَّتِهِ- مِمَّا لَا يُلَائِمُهُ. وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ- مُسْتَحَبٌّ. وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ. وَهَذَا كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ، وَأَذَى الْخَلْقِ لَهُ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْآلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ الْجَارِي عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ- مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ، وَيَنْهَى عَنْهُ- كَأَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ: حَرَامٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِرَبِّهِ تَعَالَى. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ وَلَا يُحِبُّهُ. فَكَيْفَ تَتَّفِقُ الْمَحَبَّةُ وَرِضَا مَا يَسْخَطُهُ الْحَبِيبُ وَيُبْغِضُهُ؟ فَعَلَيْكَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُرِيدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمْرًا لَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ؟ وَكَيْفَ يَشَاؤُهُ وَيُكَوِّنُهُ؟ وَكَيْفَ تَجْتَمِعُ إِرَادَةُ اللَّهِ لَهُ وَبُغْضُهُ وَكَرَاهِيَتُهُ؟ قِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي افْتَرَقَ النَّاسُ لِأَجْلِهِ فِرَقًا، وَتَبَايَنَتْ عِنْدَهُ طُرُقُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ نَوْعَانِ: مُرَادٌ لِنَفْسِهِ. وَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ. فَالْمُرَادُ لِنَفْسِهِ: مَطْلُوبٌ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ. فَهُوَ مُرَادُ إِرَادَةِ الْغَايَاتِ وَالْمَقَاصِدِ. وَالْمُرَادُ لِغَيْرِهِ: قَدْ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ مَقْصُودًا لِلْمُرِيدِ، وَلَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ. وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً مَقْصُودَةً وَمُرَادَةً. فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ نَفْسُهُ وَذَاتُهُ، مُرَادٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إِفْضَاؤُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مُرَادِهِ. فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ: بُغْضُهُ، وَإِرَادَتُهُ، وَلَا يَتَنَافَيَانِ. لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِمَا. وَهَذَا كَالدَّوَاءِ الْمُتَنَاهِي فِي الْكَرَاهَةِ، إِذَا عَلِمَ مُتَنَاوِلُهُ أَنَّ فِيهِ شِفَاءَهُ، وَكَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ إِذَا عُلِمَ أَنَّ فِي قَطْعِهِ بَقَاءَ جَسَدِهِ، وَكَقَطْعِ الْمَسَافَةِ الشَّاقَّةِ جِدًّا إِذَا عُلِمَ أَنَّهَا تُوصِلُهُ إِلَى مُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ. بَلِ الْعَاقِلُ يَكْتَفِي فِي إِيثَارِ هَذَا الْمَكْرُوهِ وَإِرَادَتِهِ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَنْهُ عَاقِبَتُهُ، وَطُوِيَتْ عَنْهُ مَغَبَّتُهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْعَوَاقِبُ؟ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَكْرَهُ الشَّيْءَ وَيُبْغِضُهُ فِي ذَاتِهِ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِرَادَتَهُ لِغَيْرِهِ، وَكَوْنَهُ سَبَبًا إِلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فَوْتِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ إِبْلِيسَ، الَّذِي هُوَ مَادَّةٌ لِفَسَادِ الْأَدْيَانِ وَالْأَعْمَالِ، وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ، وَهُوَ سَبَبُ شَقَاوَةِ الْعَبِيدِ، وَعَمَلِهِمْ بِمَا يُغْضِبُ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَهُوَ السَّاعِي فِي وُقُوعِ خِلَافِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَكُلِّ حِيلَةٍ. فَهُوَ مَبْغُوضٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مَسْخُوطٌ لَهُ. لَعَنَهُ اللَّهُ وَمَقَتَهُ. وَغَضِبَ عَلَيْهِ. وَمَعَ هَذَا فَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى مَحَابَّ كَثِيرَةٍ لِلرَّبِّ تَعَالَى تَرَتَّبَتْ عَلَى خَلْقِهِ. وَجُودُهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِهَا. مِنْهَا: أَنْ تَظْهَرَ لِلْعِبَادِ قُدْرَةُ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْمُتَضَادَّاتِ الْمُتَقَابِلَاتِ فَخَلَقَ هَذِهِ الذَّاتَ- الَّتِي هِيَ أَخْبَثُ الذَّوَاتِ وَشَرُّهَا. وَهِيَ سَبَبُ كُلِّ شَرٍّ- فِي مُقَابَلَةِ ذَاتِ جِبْرِيلَ، الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الذَّوَاتِ، وَأَطْهَرُهَا وَأَزْكَاهَا. وَهِيَ مَادَّةُ كُلِّ خَيْرٍ. فَتَبَارَكَ اللَّهُ خَالِقُ هَذَا وَهَذَا. كَمَا ظَهَرَتْ لَهُمْ قُدْرَتُهُ التَّامَّةُ فِي خَلْقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ، وَالدَّاءِ وَالدَّوَاءِ، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْمَاءِ وَالنَّارِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى كَمَالِ قُدَرَتِهِ وَعِزَّتِهِ، وَسُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ. فَإِنَّهُ خَلَقَ هَذِهِ الْمُتَضَادَّاتِ. وَقَابَلَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ. وَسَلَّطَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ. وَجَعَلَهَا مَحَالَّ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَخُلُوُّ الْوُجُودِ عَنْ بَعْضِهَا بِالْكُلِّيَّةِ تَعْطِيلٌ لِحِكْمَتِهِ، وَكَمَالِ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ. وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْقَهْرِيَّةِ، مِثْلَ الْقَهَّارِ، وَالْمُنْتَقِمِ، وَالْعَدْلِ، وَالضَّارِّ، وَشَدِيدِ الْعِقَابِ، وَسَرِيعِ الْحِسَابِ، وَذِي الْبَطْشِ الشَّدِيدِ، وَالْخَافِضِ، وَالْمُذِلِّ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ كَمَالٌ. فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُتَعَلِّقِهَا. وَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَلَكِ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ. وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ، وَمَغْفِرَتِهِ وَسِتْرِهِ، وَتَجَاوُزِهِ عَنْ حَقِّهِ، وَعِتْقِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ. فَلَوْلَا خَلْقُ مَا يَكْرَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى ظُهُورِ آثَارِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْحِكَمُ وَالْفَوَائِدُ. وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ. فَيَغْفِرُ لَهُمْ. وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَاءِ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا. وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا. فَلَا يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَلَا يُنْزِلُهُ غَيْرَ مَنْزِلِهِ، الَّتِي يَقْتَضِيهَا كَمَالُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتُهُ وَخِبْرَتُهُ. فَلَا يَضَعُ الْحِرْمَانَ وَالْمَنْعَ مَوْضِعَ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ. وَلَا الْفَضْلَ وَالْعَطَاءَ مَوْضِعَ الْحِرْمَانِ وَالْمَنْعِ. وَلَا الثَّوَابَ مَوْضِعَ الْعِقَابِ، وَلَا الْعِقَابَ مَوْضِعَ الثَّوَابِ، وَلَا الْخَفْضَ مَوْضِعَ الرَّفْعِ، وَلَا الرَّفْعَ مَوْضِعَ الْخَفْضِ، وَلَا الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَلَا الذُّلَّ مَكَانَ الْعِزِّ، وَلَا يَأْمُرُ بِمَا يَنْبَغِي النَّهْيُ عَنْهُ، وَلَا يَنْهَى عَمَّا يَنْبَغِي الْأَمْرُ بِهِ. فَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. وَأَعْلَمُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِقَبُولِهَا. وَيَشْكُرُهُ عَلَى انْتِهَائِهَا إِلَيْهِ وَوُصُولِهَا. وَأَعْلَمُ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَلَا يَسْتَأْهِلُهُ. وَأَحْكَمُ مِنْ أَنْ يَمْنَعَهَا أَهْلَهَا. وَأَنْ يَضَعَهَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهَا. فَلَوْ قُدِّرَ عَدَمُ الْأَسْبَابِ الْمَكْرُوهَةِ الْبَغِيضَةِ لَهُ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْآثَارُ. وَلَمْ تَظْهَرْ لِخَلْقِهِ. وَلَفَاتَتِ الْحِكَمُ وَالْمَصَالِحُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهَا. وَفَوَاتُهَا شَرٌّ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ. فَلَوْ عُطِّلَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ- لِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ- لَتَعَطَّلَ الْخَيْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ. وَهَذَا كَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ الَّتِي فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا هُوَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الشَّرِّ وَالضَّرَرِ. فَلَوْ قُدِّرَ تَعْطِيلُهَا- لِئَلَّا يَحْصُلَ مِنْهَا ذَلِكَ الشَّرُّ الْجُزْئِيُّ- لَتَعَطَّلَ مِنَ الْخَيْرِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الشَّرِّ بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ.
|